فصل: تفسير الآيات (64- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (64- 67):

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
{ثم توليتم} أي أعرضتم {من بعد ذلك} أي من بعد ما قبلتم التوراة {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} أي بالإمهال {لكنتم من الخاسرين} أي المغبونين بذهاب الدنيا والعذاب في العقبى. قوله عز وجل: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم} أي جاوزوا الحد {في السبت} يقال: سبت اليهود لأنهم يعظمونه ويقطعون فيه أعمالهم، وأصل السبت القطع.
ذكر الإشارة إلى القصة:
قال العلماء: بالأخبار إنهم كانوا في زمن داود عليه الصلاة والسلام بقرية بأرض أيلة وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى لا يرى الماء من كثرتها. فإذا مضى السبت تفرقت الحيتان ولزمن قعر البحر فلذلك قوله تعالى: {إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم} ثم إن الشيطان وسوس إليهم، وقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ولم تنهوا عن أخذها عن غيره فعمد رجال منهم فحفروا حياضاً كباراً حول البحر، وشرعوا منه إليها أنهاراً فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فيقبل الموج من البحر بالحيتان إلى تلك الحياض فيقعن فيها ولا يقدرن على الخروج منها لعمقها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها وقيل: إنهم كانوا ينصبون الشخوص والحبائل يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل بهم عقوبة فتجرؤوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأخذوا وملحوا وأكلوا وباعوا واشتروا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاثة أصناف، وكانوا نحو سبعين ألفاً صنف أمسك عن الصيد ونهى عن الاصطياد وصنف أمسك ولم ينه وصنف انهمكوا في الذنب وهتكوا الحرمة وكان الصنف الناهون اثني عشر ألفاً، فلما أبى المجرمون قبول نصيحتهم قالوا: والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بينهم بجدار فغيروا على ذلك سنين، ثم لعنهم داود وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد، ولم يفتحوا الباب فلما أبطؤوا تسوروا عليهم الجدار فإذا هم جميع قردة لهم أذناب وهم تتعاوون، وقيل: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاث ولم يتولدوا. قال الله عز وجل: {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} أمر تحويل وتكوين، ومعنى خاسئين مبعدين مطرودين؛ وقيل فيه تقديم وتأخير معناه كونوا خاسئين قردة ولهذا لم يقل خاسئات {فجعلناها} يعني عقوبتهم بالمسخ {نكالاً} أي عقوبة وعبرة {لما بين يديها وما خلفها} قيل: معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم وقيل: جعلنا عقوبة قرية أصحاب السبت عبرة لمن بين يديها من القرى التي كانت عامرة في الحال وما خلفها أي.
ما يحدث بعدها من القرى ليتعظوا بذلك وقوله عز وجل: {وموعظة للمتقين} أي المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لئلا يفعلوا مثل فعلهم. قوله عز وجل: {وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} البقرة واحدة البقر وهي الأنثى وأصلها البقر وهو الشق سميت بذلك لأنها تشق الأرض للحراثة.
ذكر الإشارة إلى القصة في ذلك:
قال علماء السير والأخبار: إنه كان زمن بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم بالقتل، فجحدوا واشتبه أمر القتيل على موسى عليه الصلاة والسلام. فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما أشكل عليم، فسأل موسى ربه في ذلك فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها فقال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة {قالوا أتتخذنا هزواً} أي نحن نسألك أمر القتيل، وأنت تستهزئ بنا وتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر، ولم يعلموا ما وجه الحكمه فيه {قال} يعني موسى {أعوذ بالله} أي أمتنع بالله {أن أكون من الجاهلين} أي المستهزئين بالمؤمنين وقيل: من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال فلما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله تعالى استوصفوه إياها ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد عليهم وكان في ذلك حكمة الله عز وجل، وذلك أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وله ابن طفل وله عجلة فأتى بها غيضة وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات ذلك الرجل، وصارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من الناس، فلما كبر ذلك الطفل، وكان باراً بأمه وكان يقسم ليله ثلاثة أجزاء يصلي ثلثاً وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فيحتطب ويأتي به السوق فيبيعه بما يشاء الله فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه، فقالت له أمه يوماً: يا بني إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى غيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه فقبض على قرنها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى، قالت: أيها الفتى البار بأمه اركبني فإنه أهون عليك. فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك فقالت البقرة والله لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له أمه: إنك رجل فقير ولا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة، فقال: بكم أبيعها قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق، وبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه، وهو أعلم فقاله له الملك: بكم هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضى أمي فقاله له الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي.
ورجع الفتى إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت له: ارجع فبعها بستة دنانير ولا تبعها إلا برضاي فرجع بها إلى السوق وأتى الملك فقال له: استأمرت أمك فقال الفتى: نعم. إنها أمرتني أن لا نقصها عن ستة على رضاها. فقال الملك: إني أعطيتك اثني عشر ديناراً ولا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت له أمه: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجزيك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقاله له الملك: اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهباً والمسك الجلد فأمسكتها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلاً من الله تعالى ورحمة.

.تفسير الآيات (68- 71):

{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
قوله تعالى: {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أي ما سنها {قال} يعني موسى {إنه يقول} يعني الله عز وجل: {إنها بقرة لا فارض ولا بكر} أي لا كبيرة ولا صغيرة والفارض المسنة التي لم تلد، والبكر الفتية التي لم تلد {عوان} أي نصف {بين ذلك} أي بين السنين {فافعلوا ما تؤمرون} أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها} قال ابن عباس شديد الصفرة وقيل: لونها صاف وقيل الصفراء السوداء والأول أصح لأنه يقال أصفر فاقع أسود حالك {تسر الناظرين} اي يعجبهم حسنها وصفاء لونها {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي} أي سائمة أو عاملة {إن البقر تشابه علينا} أي التبس واشتبه أمرها علينا {وإنا إن شاء الله لمهتدون} أي إلى وصفها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وايم الله لو يستثنوا لما بينت لهم آخر الدهر» {قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول} أي ليست مذللة بالعمل {تثير الأرض} أي تقلبها للزراعة {ولا تسقي الحرث} أي ليست بسنانية والسانية هي التي تستسقي الماء من البئر لسقي الأرض {مسلمة} أي بريئة من العيوب {لا شية فيها} أي لا لون فيها غير لونها {قالوا الآن جئت بالحق} أي بالبيان التام الذي لا إشكال فيه فطلبوها فلم يجدوا بقرة بكمال وصفها، إلا بقرة ذلك الفتى فاشتروها منه بملء مسكها ذهباً {فذبحوها وما كادوا يفعلون} أي وما قاربوا أن يفعلوا ما أمروا به، قيل لغلاء ثمنها وقيل: لخوف الفضيحة وقيل: لعزة وجودها بهذه الأوصاف جميعاً.

.تفسير الآيات (72- 74):

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قوله عز وجل: {وإذ قتلتم نفساً} خوطبت الجماعة بذلك لوجود القتل فيهم {فادارأتم فيها} قال ابن عباس أي اختلفتم واختصمتم من الدرء وهو الدفع لأن المتخاصمين يدفع بعضهم بعضاً {والله مخرج ما كنتم تكتمون} أي مظهر ما كنتم من أمر القتيل لا محالة ولا يتركه مكتوباً {فقلنا اضربوه} يعني القتل {ببعضها} أي ببعض البقرة قال ابن عباس ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو اصل الأذن وقيل: ضربوه بلسانها وقيل: بعجب الذنب وقيل: بفخذها اليمين والأقرب أنهم كانوا مخيرين في ذلك البعض وإنهم إذا ضربوه بأي جزء منها أجزأ وحصل المقصود وإنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك البعض ما هو. وذلك يقتضي التخيير وفي الآية إضمار تقديره فضربوه فحيي وقام بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دماً وقال قتلني فلان يعني ابن عمه ثم سقط ميتاً مكانه. فحرم قاتله الميراث وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة {كذلك} أي كما أحيا الله عاميل صاحب البقرة {يحيي الله الموتى} يعني يوم القيامة {ويريكم آياته لعلكم تعقلون} أي تمنعون أنفسكم عن المعاصي. فإن قلت كان حق القصة أن يقدم ذكر القتيل أولاً، ثم ذكر ذبح البقرة بعد ذلك. فما وجه ترتيب هذه القصة على هذا الترتيب؟ قلت: وجهه أن الله لما ذرك من قصص بني إسرائيل وما وجد من خياناتهم تقريعاً لهم على ذلك وما وجد فيهم من الآيات العظيمة، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين في نفس الأمر، فالأولى لتقريعهم على ترك المسارعة إلى امتثال الأمر وما يتبعه والثانية لتقريعهم على قتل النفس المحرمة فلو قدم قصة القتيل على قصة الذبح لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع، فلهذا قدم ذكر الذبح أولاً ثم عقبه بذكر القتل. فإن قلت ما فائدة ضرب القتيل ببعض البقرة والله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء من غيره ضرب بشيء؟ قلت: الفائدة فيه أن تكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد لاحتمال أن يتوهم متوهم أن موسى عليه السلام، إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإذا أحيي القتيل، عندما ضرب ببعض البقرة انتفت الشبهة، وعلم أن ذلك من عند الله وبأمره كان ذلك. فإن قلت: هلا أمروا بذبح غير البقرة؟ قلت: الكلام في غير البقرة لو أمروا به كالكلام في البقرة ثم في ذبح البقرة فوائد منها التقرب بالقرآن على ما كانت العادة جارية عندهم، ومنها أن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ومنها تحمل المشقة العظيمة في تحصيلها بتلك الصفة ومنها حصول ذلك المال العظيم الذي أخذه صاحبها من ثمنها.
فصل في حكم هذه المسألة في شريعة الإسلام إذا وقعت:
وذلك أن: إذا وجد قتيل في موضع، ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان ادعى به. واللوه أن يغلب على الظن صدق المدعى بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء ثم تفرقوا عن قتيل فيغلب على الظن أن القاتل فيهم أو وجد قتيل في محلة أو قرية وكلهم أعداء القتيل لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على الظن أنهم قتلوه فإن ادعى الولي على بعضهم حلف خمسين يميناً على من يدعي عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم فإذا حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه، إن ادعوا قتل خطأ، وإن ادعوا قتل عمد فمن مال المدعى عليه ولا قود عليه في قول الأكثرين، وذهب عمر بن عبد العزيز إلى وجوب القود وبه قال مالك وأحمد فإن لم يكن ثم لوث فالقول قول المدعي عليه لأن الأصل براءة ذمته من القتل وهل يحلف يميناً واحداً أم خمسين يميناً؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يحلف يميناً واحدة كما في سائر الدعاوى. والثاني: أنه يحلف خمسين يميناً تغليظاً لأمر القتيل، وعند أبي حنيفة لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي بل إذا وجد قتيل في محله، يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلاً، فإن حلفوا وإلا أخذ الدية من سكانها. والدليل على أن البداءة بيمين المدعي عند وجود اللوث. ما روى عن سهل بن أبي خيثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خبير وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه. ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه: «كبر كبر وهو أحدث القوم سناً» فسكت، فتكلما فقال أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو قال صاحبكم قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين نهم قالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وفي رواية يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وذكر نحوه وزاد في رواية فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة أخرجاه في الصحيحين، ووجه الدليل من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين ليقوى جانبهم باللوث لأن اليمين أبداً تكون لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث تكون من جانب المدعى عليه من حيث إن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله مع يمينه والله أعلم. قوله عز وجل: {ثم قست قلوبكم} أي يبست وجفت وقساوة القلب انتزاع الرحمة منه، وقيل معناه غلظت واسودت {من بعد ذلك} أي من بعد ظهور الدلالات التي جاء بها موسى، وقيل: هي إشارة إلى إحياء القتيل بعد ضربه ببعض البقرة {فهي} يعني القلوب في الغلظ والشدة {كالحجارة} أي كالشيء الصلب الذي لا تخلخل فيه {أو} قيل: أو بمعنى بل وقيل بمعنى الواو أي و{أشد قسوة} فإن قلت: لم شبه قلوبهم بالحجارة ولم يشبهها بالحديد وهو أشد من الحجارة وأصلب.
قلت: لأن الحديد قابل للين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة ليست قابلة للين فلا تلين قط. ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} قيل: أراد به جميع الحجارة وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى ليسقي الأسباط والتفجير التفتح بالسعة والكثرة {وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء} يعني العيون الصغار التي دون الأنهار {وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله، وخشيتها عبارة عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد منها، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع. فإن قلت: الحجر جماد لا يعقل ولا يفهم فكيف يخشى؟ قلت: إن الله تعالى قادر على إفهام الحجر والجمادات فتعقل وتخشى بإلهامه لها، ومذهب أهل السنة إن الله تعالى أودع في الجمادات والحيوانات، علماً وحكمة لا يقف عليهما غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية يدل عليه قوله: {وإن من شيء إلا يسبح الله بحمده} وقال تعالى: {والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه} فيجب على المرء الإيمان به وبكل علمه إلى الله تعالى.
(م) عن جابر بن سمرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن» عن علي قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليكم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي. وقال حديث غريب.
(خ) عن جابر بن عبد الله قال: «كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جذع في قبلته يقوم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته فلما وضع المنبر سمعنا للجذع حنيناً مثل صوت العشار حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه، وفي رواية: صاحت النخلة صياح الصبي فنزل صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي لا يسكت حتى استقرت. قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر» قال مجاهد: ما ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله وذلك يشهد لما قلنا {وما الله بغافل عما تعملون} فيه وعيد وتهديد والمعنى أن الله بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم حتى يجازيهم بها في الآخرة.